أبٌ يعنّف ابنته لينتقم من طليقته… من يوقف دائرة العنف ضد الأطفال في العراق؟

شارك الخبر

سدن سالم – يوم امس اهتزّ الرأي العام العراقي بعد انتشار مقطع فيديو صادم يظهر فيه أبٌ ينهال ضرباً على ابنته القاصر، فيما كانت الطفلة تصرخ خوفاً وألماً. الفيديو الذي صُوّر بدم بارد، لم يكن بدافع الجنون أو لحظة غضب عابرة، بل كان رسالة “انتقام” موجّهة من الأب إلى طليقته — إذ أرسل المقطع لها عبر الهاتف ليؤلمها بابنتهما الصغيرة.

ولحسن الحظ، تحركت القوات الأمنية بسرعة، وأعلنت وزارة الداخلية القبض على الجاني خلال ساعات قليلة من انتشار الفيديو، مؤكدةً أن التحقيقات جارية، وأن الطفلة نُقلت إلى رعاية آمنة.

لكن خلف هذا المشهد المؤلم، تبرز أسئلة أكبر وأخطر: ما الذي يجعل الأب يتحول إلى جلاد؟ وكيف يمكن أن يصل العنف الأسري إلى هذا المستوى من القسوة؟ ولماذا تتكرر مثل هذه الحوادث في المجتمع العراقي؟

ظاهرة تتسع.. لا حالة فردية

ليست هذه الحادثة الأولى، ولن تكون الأخيرة ما لم يُتخذ موقف وطني حقيقي لوقف العنف الأسري.

خلال عام 2024 فقط، سجلت وزارة الداخلية العراقية أكثر من 14 ألف حالة عنف أسري في البلاد، بين اعتداء على نساء وأطفال وقاصرين. وتشير منظمات المجتمع المدني إلى أن الرقم الحقيقي ربما يتجاوز ذلك بكثير، لأن مئات الضحايا لا يبلّغون خوفاً من “الفضيحة” أو “العار”، أو لأنهم ببساطة لا يثقون بوجود حماية حقيقية لهم.

اللافت أن العنف لم يعد مرتبطاً فقط بالفقر أو الجهل، بل أصبح نتيجة تفاعل معقّد بين عوامل نفسية واجتماعية واقتصادية — أبرزها الانفصال الزوجي، الإدمان، وضغوط المعيشة القاسية.

فبعد الطلاق، يتحول بعض الأزواج إلى نماذج انتقامية تستخدم الأطفال كأدوات حرب ضد الطرف الآخر، كأن الطفل ليس إنساناً بل “وسيلة ضغط”. وهذا ما حدث في الفيديو الأخير؛ رجل يستخدم ابنته لتأديب أمها، وكأن الحبّ الأبوي لم يعد إلا ذكرى باهتة.

الإدمان: وقود العنف الصامت

الخبراء يؤكدون أن تعاطي المواد المخدّرة — خصوصاً مادة “الكريستال ميث” المنتشرة في عدد من المدن العراقية — أصبح أحد المحركات الخطيرة خلف تصاعد جرائم العنف الأسري.

فالمتعاطي يعيش حالة من الهياج وفقدان السيطرة، وغالباً ما يوجّه غضبه نحو أقرب الناس إليه. يقول الطبيب النفسي د. علي الحمداني إن “المخدر لا يغيّر فقط المزاج، بل يعطّل مراكز الرحمة والشفقة في الدماغ، فيحوّل الشخص إلى كتلة عدوانية بلا ضمير”.

ومع غياب مراكز تأهيل كافية، واستمرار تجارة المخدرات، يبقى آلاف الأطفال عرضة للعنف من آباء أو أمهات خرجوا عن السيطرة.

قانون بلا أسنان

ورغم حجم الكارثة، ما زال العراق يفتقر إلى قانون حقيقي لحماية ضحايا العنف الأسري. فالقانون العراقي الحالي يمنح الوالد “حق التأديب”، وهو مصطلح فضفاض يفتح الباب أمام تبرير الضرب والإيذاء الجسدي.

وتطالب منظمات حقوق الإنسان منذ سنوات بإقرار قانون مكافحة العنف الأسري، الذي يضمن أوامر حماية عاجلة للضحايا، ويوفّر ملاجئ آمنة للأطفال والنساء، ويجرّم الاعتداء بشكل صريح.

لكن القانون ما زال “عالِقاً” في أروقة البرلمان بين اعتراضات دينية واجتماعية، فيما الضحايا يزدادون يوماً بعد يوم.

المجتمع شريك بالصمت

ما يجعل المشهد أكثر ألماً هو صمت المجتمع.

الجار يسمع صراخ طفلة في الليل، فيتجاهل. المعلم يلاحظ آثار ضرب على وجه الطالب، فيصمت. الأقارب يعلمون أن أحدهم يضرب أبناءه “تربيةً” فيعتبرونه شأناً عائلياً.

هكذا يتحول العنف إلى “عرف”، وتصبح الطفولة ساحة معركة بين أعراف وتقاليد تحمي المعتدي وتخنق الضحية.

تقول الناشطة الاجتماعية زينب الطائي: “المشكلة مو بس بالقانون، المشكلة بالعقل الجمعي. إحنا نعتبر الطفل ملك الأهل، مو إنسان مستقل له حقوق”. وتضيف: “كل ما نسكت عن حادثة، نشارك فيها بطريقة غير مباشرة”.

الطريق نحو الحل

الحل لا يقتصر على المعاقبة فقط، بل على بناء منظومة كاملة للوقاية والحماية والتوعية.

  • أولاً: تشريع قانون العنف الأسري بشكل عاجل وواضح، مع ضمان حماية قانونية فورية للأطفال.
  • ثانياً: إطلاق حملات توعوية في الإعلام والمدارس والمساجد عن حقوق الطفل وأضرار العنف.
  • ثالثاً: إنشاء مراكز إيواء واستشارات أسرية في كل محافظة، بإشراف وزارة العمل والمنظمات المدنية.
  • رابعاً: مكافحة الإدمان كمصدر خطر دائم للعنف المنزلي، عبر برامج علاجية حقيقية وليس مجرد حملات إعلامية.
  • خامساً: إشراك رجال الدين والمؤثرين في نشر ثقافة “الرحمة لا الندم”، ورفض استخدام الأطفال في الخلافات الزوجية.

الأمن يتحرك.. لكن من يمنع الجريمة قبل وقوعها؟

نعم، الأجهزة الأمنية تستجيب بسرعة وتشكر على ذلك. لكنها تتعامل غالباً مع “نتائج” الجريمة، لا أسبابها.

حين نرى أباً يصوّر نفسه وهو يعنّف ابنته، فهذا يعني أن الخلل أعمق من لحظة غضب؛ إنه خلل في التربية، في الوعي، في الردع، وفي القانون.

الطفلة التي بكت في الفيديو ربما تنجو جسدياً، لكنها ستحمل جرحاً نفسياً طويلاً، يحتاج إلى احتواء وعلاج وبيئة تحبها من جديد.

العنف الأسري ليس شأناً خاصاً، بل قضية وطنية تمس مستقبل العراق كله.

فالأب الذي يضرب ابنته، والأم التي تسيء إلى طفلها، لا يدمّران أسرة واحدة فقط، بل يزرعون جيلاً مشوهاً لا يعرف الحنان ولا الثقة