“اقتصاد الريع يحتضر: العراق بين شبح الركود وسلاح النفط المكسور”

شارك الخبر

علي كريم إذهيب – بينما تتسارع الأحداث العالمية، وتتقلّب الأسواق المالية على وقع أزمات متلاحقة، تلوح في الأفق بوادر ركود اقتصادي عالمي قد يكون الأعمق منذ الأزمة المالية في 2008. ومع ارتفاع أسعار الفائدة عالميًا، واضطراب سلاسل الإمداد، وتباطؤ النمو في الصين والاتحاد الأوروبي، تبدو الدول النامية – ومنها العراق – في موقع هشّ بشكل خاص، معرضة لرياح عاصفة قد تهزّ استقرارها الاقتصادي الهش أصلاً.

في هذا السياق، يبرز السؤال المركزي: هل العراق مستعد فعلاً لمواجهة ركود عالمي قد يعصف بأسواق الطاقة، ويهدد الموارد الريعية، ويفضح عمق الاعتماد على النفط؟

النفط: نعمة مشروطة
تشكّل عائدات النفط أكثر من 90% من موازنة العراق. هذه الحقيقة، رغم ما تحققه من إيرادات عالية في أوقات ارتفاع الأسعار، تحمل في طياتها مخاطرة شديدة عندما تنخفض الأسعار أو تتراجع كميات التصدير لأي سبب. ومع تصاعد الحديث عن دخول الاقتصاد العالمي في مرحلة تباطؤ، فإن الطلب على النفط مرشح للانخفاض، ما يعني ضغوطًا على الأسعار.

صحيح أن العراق قد استفاد من الطفرات النفطية في السنوات السابقة، إلا أن الإنفاق الحكومي ظلّ استهلاكيًا أكثر من كونه استثماريًا. لم تُبنَ بنى تحتية اقتصادية قادرة على تنويع مصادر الدخل، ولم تُخلق فرص عمل خارج القطاع العام، ولم تُفعّل الزراعة ولا الصناعة بالشكل الكافي.

هذا الاعتماد شبه الكامل على النفط يجعل الموازنة العراقية عرضة لصدمات شديدة، كما أن أي انخفاض في الأسعار سينعكس مباشرة على قدرة الحكومة في دفع الرواتب، والإنفاق على الخدمات، والاستثمار في المشاريع الأساسية.

الموازنة الثلاثية والعبء المستقبلي
رغم ما تحققه الموازنة الثلاثية (2023 – 2025) من استقرار على الورق، إلا أنها تتضمن مخاطر هيكلية. الاعتماد على سعر نفط افتراضي مرتفع (70 – 75 دولارًا للبرميل) يجعلها مهددة في حال تراجع الأسواق، خصوصًا إذا ما ترافق الركود العالمي مع خفض الطلب على النفط، أو مع أزمة مالية تضرب أحد شركاء العراق التجاريين الرئيسيين.

الأخطر من ذلك أن الموازنة باتت تعتمد بشكل متزايد على الاقتراض الداخلي والخارجي لتغطية العجز. في بيئة مالية عالمية متشددة، وارتفاع كلفة الاقتراض، فإن العراق قد يجد نفسه بين فكي كماشة: حاجة إلى الإنفاق مقابل عجز في التمويل، وارتفاع في الفوائد.

الدينار والتضخم: خطر مزدوج
مع ازدياد الحديث عن ركود عالمي، ترتفع قيمة الدولار مقابل معظم العملات. في العراق، حيث تُستخدم العملة الأميركية على نطاق واسع، يتأثر الدينار العراقي بشكل غير مباشر من هذه التحركات. وإذا لم تدار السياسة النقدية بحذر، فإن العراق قد يواجه إما ضغوطًا تضخمية نتيجة زيادة أسعار المستوردات، أو صدمة نقدية إذا ما تراجعت قدرة البنك المركزي على الحفاظ على استقرار الدينار.

الأشهر الماضية شهدت تقلبات حادة في سعر صرف الدولار في الأسواق الموازية، وهو ما يكشف هشاشة أدوات السيطرة النقدية، رغم محاولات البنك المركزي التدخل عبر المنصة الإلكترونية وتحسين الامتثال لمتطلبات التحويلات الدولية.

أين الإصلاح الحقيقي؟
رغم الخطط والوعود، لا يزال الإصلاح الاقتصادي في العراق في مراحله الأولى. لا توجد حتى الآن رؤية واضحة لتحفيز القطاع الخاص، ولا سياسات ضريبية فاعلة، ولا بيئة استثمارية جاذبة. العوائق البيروقراطية، وغياب سيادة القانون، واستمرار الفساد، تجعل العراق بيئة طاردة لرأس المال المحلي والأجنبي.

في زمن الأزمات، لا يكفي الحديث عن الإصلاح، بل يجب أن تكون هناك قرارات شجاعة. مثلاً، لماذا لا يتم تفعيل قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص فعليًا؟ ولماذا لا يُعاد النظر في هيكل الرواتب والمخصصات التي تستهلك أكثر من نصف الموازنة دون إنتاجية مقابلة؟ ولماذا لا يُطلق مشروع وطني لتحفيز الزراعة والصناعة التحويلية؟

الفرص وسط التحديات
مع كل هذه المؤشرات السلبية، لا يزال العراق يملك أوراق قوة إذا أُحسن استخدامها. من بين هذه الأوراق:

احتياطي نقدي قوي تجاوز 100 مليار دولار، يتيح هامشًا من الأمان النقدي.

موارد بشرية شابة يمكن أن تتحول إلى قوة اقتصادية إذا ما تم تأهيلها.

موقع جغرافي استراتيجي بين الخليج وأوروبا، يفتح آفاقًا لوجستية وتجارية ضخمة.

قطاع زراعي مهمل يمكن أن ينهض بقوة إذا توافر الدعم، خاصة مع التغيرات المناخية التي تشجع على الاكتفاء الذاتي.

العراق ليس بمعزل عن الاقتصاد العالمي، وهو مهدد أكثر من غيره بسبب اعتماده على مصدر واحد للدخل. الركود القادم – إن تحقق – سيكون امتحانًا قاسيًا لقدرة الدولة على الصمود، لا سيما في ظل موازنات مثقلة بالرواتب والدين، ونظام اقتصادي غير متنوع.

الوقت لم يعد يسمح بالتأجيل. الإصلاح الاقتصادي الحقيقي يجب أن يبدأ الآن، وبخطوات واضحة وشجاعة. وإلا فإن العاصفة الاقتصادية القادمة قد لا تُبقي كثيرًا من مكتسبات ما بعد 2003، بل قد تعيد العراق إلى مربع الأزمات المزمنة.