ما لم يقل بعد

شارك الخبر

    فدى الحاج  /  ذات يوم، وبعد طول غياب، عادت الى بيت الطفولة، تبحثبين أركانه عن خيوط الحنين، بين الاثاث العتيق، وجدرانه التي لم تعد تحتفظ الا بظلال وجوه غابت.

تقدمت نحو الصندوق الخشبي المهترئ، التهم منه الدهر ما شاء من ذكريات ، لكنه عجزعن محو رائحة الماضي، ولا همسات الأيام التي كانت تسكنه.

فتحته بلهفة، فلم تجد سوى أوراق صفراء، وصور باهتة تفوح منها عبق الأيام الماضية .

هناك بين طبقات الغبار، كانت القلادة التي ورثتها عن أمها، تختبئ كأنها تخفي سراً لم يكشف بعد.

وحين مدت يدها لتلمسها، ادركت أن ما رأته لم يكن سوى بريق الشمس الذي يتسلل عبر النافذة، يرقص على قفل الصندوق الفارغ.

لحظة واحدة كانت كفيلة بأن تشعر بأن كل شيء قد اختفى، وكأن يداً خفية اقتلعت الماضي من مكانه، تاركة فراغاً يتردد صداه في صدرها.

أدارت وجهها نحو كرسي أمها حيث كانت تجلس طوال فترة مرضها، والدموع تنساب بصمت على وجنتيها ، حزينة على زمن لم يبق منه سوى اطياف الذكرى .

تأملت المكان، تلامست اطراف الطاولة التي جمعتهم ذات يوم، وابتسمت بوجع، حين استرجعت ضحكات أمها، وصوتها الدافىء يناديها لتطلب منها شيئاً لا يعلمه سواها…

اقتربت من النافذة التي كانت أمها تقف عندهاتنتظرعودة الغائبيين، تنهدت هامسة:

كل من غاب.. لن يعود…

جلست على كرسيها المتحرك، تخاطبها كأنها امامها، اماه ما الذي كنتي تخفيه، ما الذي لم تقوليه لي؟؟ لِمَ كل هذا الغموض؟

كانت كلماتها تتبعثر في الهواء، حتى سمعت خطوات تقترب من الباب، فرأت رجلاً انهكه التعب، غطى الشيب شعره وأخفت السنين ملامحه، حدقت به جيداً، فإذا به شقيقها الذي فرقتهما السنوات، رمق الصندوق بنظرة مضطربة، وحين رآه مفتوحاً، تغير وجهه، فعرفت انه هومن سرق القلادة وسلبها حقها.

قال بصوت يرتجف، تثقل كلماته بالندم.

سامحيني ما كنت لاعلم انك ستعودين الى هذا البيتيوماً .

تابع وهو يضم كفّيه كمن يعترف امام قاضٍ:

ظننتها قطعة ذهبية، فقدت قيمتها، ولم ادرك اني سرقت شيئاً من قلب امي.

نظرت اليه بعين يملؤها العتب، وقالت:

كل هذه السنوات… وانت صامت!!!

فأجاب، والندم يسكن صوته..

الصمت كان عقابي“.

ثم تقدم نحوها احتضنها بقوة، هامساً بأذنها بصوت يملؤه الحنين، اصبري…. سأعيد لك حقك، وان لم تكن قلادة امي نفسها، فسأعوضك بما هو اثمن، هذا البيتلكِ، فهو اخر ما تبقى من عبقها، تعويضاً عمّا سرق منك،ولتكن هذه اللحظة بداية جديدة لنا، متكاتفين كما ارادت لنا، لن يفرقنا شيء، وسأبقى لك الأخ، والسند، والطمأنينة، حتى يهدأ قلب والدينا في مثواهما، دون تشتت بعد اليوم .

ابتسمت وعيناها تلمعان بدمعٍ دافئ، وقالت بهدوءٍ يشبه الصفح:

ها قد قيل اخيراً ما لم يقل بعد.