مقداد ميري – “مغنية الحي لا تُطرب” قراءة في دلالات هذا المثل العربي الشائع وظلاله الاجتماعية، يُستخدم للإشارة إلى ظاهرة التقليل من قيمة الأشخاص القريبين منّا أو الذين نعرفهم عن قرب، حتى وإن كانوا مبدعين أو متميزين. وهو تعبير ساخر عن عدم تقدير الإنسان لما هو مألوف، وافتتانه غالبًا بما هو بعيد أو قادم من الخارج، حتى وإن لم يكن الأفضل.
يروي المثل حكاية فتاة تغني في حيّها، لكن أهل الحي لا يتفاعلون معها، لأنهم اعتادوا على صوتها، في حين أن الغريب أو الزائر قد ينبهر بجمال صوتها لأنه يسمعه لأول مرة. وهنا لا يرمز الغناء إلى الطرب فقط، بل يُستخدم كرمز لأي موهبة أو قيمة لا تُقدّر في بيئتها بسبب الألفة أو التحيّز أو ضعف التقدير.
يحمل المثل دلالات اجتماعية عميقة، منها: أولاً، غياب التقدير المحلي؛ حيث إن المجتمعات كثيرًا ما تبحث عن القيمة في القادم من الخارج وتقلل من شأن مواهب أبنائها. ثانيًا، عقدة الانبهار بالبعيد؛ فكل ما هو خارجي يُنظر إليه على أنه أعلى جودة وأكثر تميزًا. ثالثًا، الاعتياد يقتل الدهشة؛ فالإنسان حين يعتاد على الشيء الجميل، يفقد القدرة على الإعجاب به رغم استمراره في التميز.
وللمثل أمثلة معاصرة كثيرة؛ فكم من فنان أو مبتكر أو مثقف لم يُعترف بقدراته محليًا إلا بعد أن يحقق إنجازًا خارجيًا؟ وكم من شخص داخل مؤسسة لا يُؤخذ برأيه، بينما يُستقبل كرأي خبير عندما يُستشار من جهة أخرى؟
ورغم صحة المثل في وصف الظاهرة، إلا أن استسلامنا له يعكس مشكلة ثقافية أعمق: ضعف الثقة بالنفس، والانبهار بكل ما هو خارجي. مسؤوليتنا كمجتمعات ومؤسسات تقتضي أن نكسر هذه القاعدة، ونمنح “مغنية الحي” فرصة عادلة إن كانت تستحقها.
في الخلاصة، “مغنية الحي لا تُطرب” ليس مجرد مثل شعبي، بل تحذير ثقافي من التهاون في تقدير القريب، والانبهار بالبعيد. وإذا استمررنا في تجاهل من حولنا والاحتفاء بالغريب، سنخسر الكثير من الطاقات التي لا تنتظر سوى التقدير.