ناجي الغزي – في لحظة واحدة، تحوّل مكانٌ يفترض أن يكون ملاذاً للعوائل إلى محرقةٍ لأحلامهم… الكوت تبكي أبناءها، ووجعها ليس جديداً، بل امتدادٌ لسلسلة طويلة من الفواجع التي تكرّرت وتكرّرت، وكأننا شعبٌ محكوم عليه بالموت في أماكن لا تخضع لأدنى شروط السلامة، ولا تحمل من “الاستثمار” سوى اسمه.
ما الذي تغيّر منذ فاجعة الكرادة؟ ومنذ العبّارة في نينوى؟ ومنذ فاجعة مستشفى الحسين في الناصرية؟ وقاعة الأعراس المحترقة في الحمدانية؟
واليوم… هايبر ماركت الكوت يختصر فشلاً ادارياً، وغفلةً رقابية، وفساداً يبرر كل شيء تحت شعار “الربح اولاً”، ولو على جثث النساء والأطفال.
*حين يصبح الاستثمار أداة قتل ناعم*
الاستثمار ليس جريمة، بل هو ضرورة للتنمية. لكن حين تتحوّل رخص الاستثمار إلى صفقات مشبوهة، يغيب فيها التخطيط، وتُختصر فيها الرقابة، وتُدفن فيها القيم… تصبح المولات والأسواق والمستشفيات والملاهي أفخاخ موت مغلّفة بالإعلانات والعروض. لانريد أن نبتعد في المقارنة عن دول الجوار مثلاً: في دول الخليج – كالإمارات وقطر والسعودية – تُفتتح المشاريع الضخمة وفق معايير صارمة للسلامة، تبدأ من تصميم البناية، وتمرّ بأنظمة الإطفاء والطوارئ، ولا تنتهي عند محاسبة أي مسؤول يُقصّر. هناك لا يُفتتح مركز تسوّق أو مستشفى أو برج دون أن تُخضعه الحكومة لعشرات الفحوص الفنية واللوجستية. أمّا في العراق، فكأننا نعيش في ظلّ قانون الغابة: الأهم أن تُنجز المشروع، بأي شكل، وبأي ثمن، وبأي مواد أولية، وحياة الناس… تأتي لاحقاً !
*الحكومة أمام امتحان الضمير*
ما فائدة لجنة تحقيق تُشكل بعد كل كارثة؟
ما قيمة بيانات التعزية حين لا ترافقها محاسبة؟
ما جدوى نثر الوعود في الهواء إذا لم تُترجم إلى إجراءات حاسمة؟
أمام الحكومة المركزية، وكذلك الحكومات المحلية، مسؤولية أخلاقية وتاريخية، وأقل ما يمكن فعله هو:
1. مراجعة شاملة وفورية لكل التراخيص الاستثمارية في الأسواق والمراكز التجارية والمشافي والمرافق العامة.
2. إعادة تفعيل فرق السلامة المدنية، على أن تعمل باستقلالية تامة وتخضع لمحاسبة برلمانية مباشرة.
3. وقف العمل الفوري بأي منشأة لا تستوفي شروط السلامة، حتى وإن كانت “مشروعاً وطنياً كبيراً”.
4. فتح ملفات الفساد السابقة التي رافقت الاستثمار في المحافظات، وتقديم الفاسدين إلى القضاء.
5. تشريع قانون استثمار جديد يربط الربح بالمسؤولية، والنجاح بالأمان.
*إلى المستثمرين… تذكّروا*
أنكم لا تستثمرون في الخرسانة، بل في حياة الناس.
أنّ المال قد يُعطيكم النفوذ، لكن الضمير وحده يمنحكم الشرعية.
وأنّ أبشع أنواع الربح، هو ذاك الذي يُقتطع من دموع الأمهات.
وإلى المواطن… لا تصمت
طالب بحقك، بصوتك، بمنشورك، باعتراضك.
اسأل عن طفاية الحريق، عن مخرج الطوارئ، عن عدد رجال الأمن، قبل أن تدخل أي مكان عام.
أنت لست رقماً، أنت حياة، وحياتك لا يجب أن تكون سلعة في سوق الفساد.
لا نريد أن نضيف اسم “الكوت” إلى قائمة المدن المنكوبة بالإهمال، لكن يبدو أن المسؤولين في الحكومة مصمّمين على تكرار الفشل…
فمن لم يتعلّم من نار الكرادة، ولا من غرق العبّارة، ولا من صرخات الناصرية، ولا من عرس الحمدانية… سيُعيد المشهد في الكوت، وسيبكي الناس من جديد، ويصرخون: حسبي الله ونعم الوكيل… إلى متى؟
رحم الله الضحايا، ولعن الله من تاجر بدمائهم.