بغداد – خاص
الشرارة الأولى: من الحريق إلى الاستقالة
في صباح يوم 16 تموز 2025، تحوّل مركز “هايبر الكوت” التجاري من مجمّع للتبضّع والترفيه إلى محرقة جماعية، التهمت أرواح العشرات وأثارت جراحًا لا يمكن نسيانها. الحريق الذي اندلع إثر انفجار وحدة تبريد في محل للعطور، كشف عجزًا إداريًا وأمنيًا واضحًا. مبنى من ثلاثة طوابق، بلا مخارج طوارئ، ولا أنظمة إنذار، ولا إجراءات سلامة تليق بحجم المكان وعدد روّاده.
الصدمة كانت كافية لتفجير موجة من الغضب الشعبي، لم تهدأ رغم محاولات التبرير أو امتصاص الغضب. وبسرعة، تحوّل الحريق إلى قضية رأي عام، واتجهت أصابع الاتهام مباشرة نحو المحافظ محمد جميل المياحي، الذي واجه اتهامات بالإهمال والتقصير، وربما التورط في التغطية على مخالفات البناء والتشغيل.
استقالة سياسية أم مناورة قضائية؟
في 23 تموز، وبعد أكثر من أسبوع على الكارثة، أعلن المياحي استقالته من منصبه، مبررًا خطوته بـ”احترام دماء الضحايا”. إلا أن توقيت الاستقالة جاء بعد تصاعد الضغط السياسي والشعبي، وتقديم أكثر من 50 نائبًا طلبًا لإقالته، فضلًا عن أوامر تحقيق من رئاسة الوزراء ومجلس القضاء الأعلى.
الاستقالة، ورغم طابعها الإنساني المعلن، فُسّرت سياسيًا بأنها محاولة لتخفيف الضغط وتقديم “كبش فداء” يضمن تهدئة الشارع، خصوصًا وأن الحديث بدأ يدور عن إحالة ملف الحادث إلى القضاء، وعن تورط مسؤولين كبار، مدنيين وأمنيين، في تسهيل المخالفات القانونية في بناء المجمع وتشغيله.
هل ترفع الاستقالة الغطاء عن الملاحقة؟
من الناحية القانونية، لا تُحصّن استقالة المياحي موقفه، بل قد تُسرّع وتيرة التحقيق. فالمحافظ، بحكم منصبه التنفيذي، كان يمتلك نفوذًا إداريًا قد يعيق التحقيقات لو بقي في منصبه. ومن هنا، فإن خروجه من دائرة القرار يفتح الباب أمام تحقيق أكثر شفافية، ويمنع احتمالات التأثير على الشهود أو الجهات الرقابية.
مصادر قضائية أكدت أن ملف القضية يتجه نحو التوسّع، وقد يشمل المياحي إلى جانب ضباط في الدفاع المدني ومديرية الشرطة، إضافة إلى موظفين في البلدية ودائرة الاستثمار. القضية، إذًا، لم تعد حادثًا معزولًا، بل مؤشّرًا على شبكة واسعة من الفساد الإداري واللامبالاة بسلامة المواطنين.
انفجار شعبي.. هل يكون بداية لنهج جديد؟
الاحتجاجات التي أعقبت الحادث أعادت إلى الأذهان مشاهد انتفاضات تشرين، من حيث الغضب الشعبي الموجّه نحو رموز السلطة المحلية واللامبالاة الحكومية. إغلاق مبنى المحافظة من قبل ذوي الضحايا والمواطنين الغاضبين، لم يكن مجرد رد فعل عاطفي، بل تعبير واضح عن انعدام الثقة بالمؤسسات، وعن رغبة جادة في محاسبة حقيقية لا تتوقف عند حدود إقالة موظف أو تغيير اسم في اليافطة.
وهنا يبرز سؤال جوهري: هل ستكون استقالة المياحي نهاية للمأساة، أم بداية لمسار جديد في المساءلة والمحاسبة؟
الرسائل السياسية من وراء الاستقالة
• للحكومة المركزية: محاولة لامتصاص الغضب واحتواء الأزمة قبل أن تتوسع.
• للشارع: تقديم تضحية رمزية قد لا تكفي، لكنها تُظهر على الأقل أن الاحتجاج يُثمر.
• للمسؤولين المحليين: رسالة ردع بأن المناصب لن تحمي من المحاسبة في حال وقوع كوارث بهذا الحجم.
ومع ذلك، فإن الاستقالة لا تُغني عن المحاكمة. فالمحاسبة الحقيقية تعني كشف سلسلة التجاوزات التي سبقت الحريق، من منح إجازات الاستثمار دون تدقيق، إلى التساهل في إجراءات السلامة، وصولًا إلى الغياب الكامل للرقابة.
استقالة.. لكنها ليست النهاية
قد تكون استقالة محافظ واسط محمد المياحي نقطة تحوّل في المشهد السياسي المحلي، لكنها لا تمثل نهاية المطاف في قضية مجمع “هايبر الكوت”. فدماء الضحايا تطالب اليوم بأكثر من اعتذار، وتنتظر محاكمة شفافة تعيد ثقة العراقيين بدولة القانون، وتضع حدًا لثقافة الإفلات من العقاب.
يبقى التحدي الأكبر أمام السلطات القضائية: هل تمتلك الإرادة السياسية والغطاء القانوني الكافي لكشف الحقيقة، بلا مجاملة أو تسويف؟
الأيام المقبلة وحدها ستجيب.