سدن سالم – في بغداد اليوم، لم يكن خطيب جامع كريم الناصر في الدورة مشغولًا بترتيب خطبته أو مراجعة نصوصه الدينية، بل كان يواجه امتحانًا من نوع آخر: امتحان “الإدارة الدينية” التي ترى المنبر كرسيًّا إداريًا يُسلَّم ويُسحب كما تُسلَّم مفاتيح غرفة في دائرة حكومية.
الشيخ عبد الستار القره غولي، إمام وخطيب المسجد، وجد نفسه مطرودًا من منبره، ممنوعًا من الخطابة، محتجزًا داخل غرفة في الجامع، ليخرج بعدها جثة هامدة بعد مشادة كلامية قلبت نبض قلبه المريض إلى توقف أبدي.
المنبر “منافسة وظيفية” لا عبادة!
في العراق، لم يعد المنبر مكانًا تُبث فيه خطب الجمعة فحسب، بل صار “منافسة وظيفية” بين خطيب وآخر. من يستحق المنبر؟ من هو المقرّب؟ ومن هو المدعوم من جهةٍ ما؟ لا عجب أن يتحول بيت الله إلى حلبة نزاع، تُدار فيها الخصومات كما تُدار مناقصات المقاولين.
موتٌ ببطاقة دعوة إلى غرفة الاحتجاز
الحادثة، كما نقلت وسائل الإعلام، بدأت بـ “منع” الخطيب من إلقاء خطبته، ثم اعتداء، ثم احتجاز في إحدى غرف الجامع. لم يكن السلاح رصاصة ولا خنجرًا، بل ضغط نفسي وجسدي على رجل قلبه عليل. والنتيجة: وفاة.
الوقائع نفسها تبدو وكأنها مشهد من مسرحية عبثية: إمام يموت داخل جامع… ليس في انفجار إرهابي، بل في صراع على حق الكلام.
ردود فعل: بيانات أكثر من البخور
ديوان الوقف السني أعلن القبض على المتورطين، وأعضاء برلمان صرخوا بضرورة إقالة المسؤولين. لكننا نعرف – يا سادة – أن البيانات في العراق تُستهلك أسرع من البخور في ليلة رمضان. القضية ستُعلن اليوم بحزم، وغدًا قد تُطوى بحجة “التحقيق مستمر”.
ماذا تعلّمنا من “جمعة الدورة”؟
- أن المنابر لم تعد منابر دعوة، بل مقاعد صراع.
- أن الموت يمكن أن يأتيك وأنت ترتدي عباءتك البيضاء لا لأنك تصارع الإرهاب، بل لأنك صادفت خطيبًا بديلاً أكثر نفوذًا.
- وأن إدارة المساجد باتت أقرب إلى إدارة ملعب كرة: تغييرات، احتجاجات، وصافرة النهاية غالبًا مأساوية.
مقتل الشيخ عبد الستار القره غولي لم يكن مجرد حادثة عابرة، بل رسالة مريرة: في بلدٍ تحوّل فيه المنبر إلى كرسي دوّار، لم يبقَ للخطيب إلا أن يكتب وصيته قبل أن يصعد الدرجتين الأخيرتين.

