“B سالب من فيتش… إنذار مبكر لاقتصاد العراق الذي يراوح مكانه بين فائض نفطي وعجز مالي!

شارك الخبر

علي كريم إذهيب – في تقرير جديد أصدرته وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، حافظت الوكالة على وضع العراق عند درجة “B-” مع نظرة مستقبلية مستقرة، لكنها أكدت وجود ارتفاع ملحوظ في المخاطر السياسية وجمود مالي متصاعد يضع البلاد أمام تحديات هيكلية قد تؤثر في استقرارها الاقتصادي خلال السنوات المقبلة. ورغم أن مثل هذا الإعلان قد يبدو للوهلة الأولى شأنًا فنيًا بحتًا، إلا أنه في الحقيقة يمس صميم قدرة الدولة على تمويل مشاريعها، وسداد التزاماتها، وجذب الاستثمارات، بل وحتى رسم مستقبلها المالي.

تصنيف “B-”.. ما الذي يعنيه للمستثمر والدولة؟

يُعد تصنيف B- أحد مستويات الدرجة غير الاستثمارية، أو ما يعرف عالميًا بـ”التصنيف المضاربي”. وهذا يعني أن الجهة المقترِضة – هنا العراق – قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية، لكنها تواجه مخاطر كبيرة تجعل المستثمرين أكثر حذرًا، وتدفعهم إلى المطالبة بعوائد أعلى لتعويض مستوى المخاطرة.

بمعنى آخر، حين يفكّر العراق في طرح سندات دولية أو اللجوء لأسواق المال، فإنه سيدفع فائدة أكبر مقارنة بالدول ذات التصنيفات الأعلى. وهذا وحده يشكل عبئًا إضافيًا على ميزانية تعاني أصلًا من اختلالات في هيكل الإيرادات والإنفاق.

المخاطر السياسية: عقدة أمان التصنيف

تضع وكالة فيتش المخاطر السياسية في العراق ضمن أبرز نقاط الضعف. ويشمل ذلك:
• هشاشة البيئة السياسية، وتكرار الأزمات الحكومية.
• بنية حوكمة ضعيفة، وعدم استقرار في آليات اتخاذ القرار.
• تأثير التجاذبات الداخلية على السياسات المالية والاقتصادية.

هذا الاضطراب يجعل البيئة الاقتصادية غير قابلة للتنبؤ، فيما يرى المستثمر الأجنبي أن أي مشروع قد يتوقف أو يتعرقل بسبب تبدل السياسات أو تغير موازين القوى.

السياسة هنا ليست مجرد خلفية للمشهد الاقتصادي، بل هي العامل الأكثر ترجيحًا لخفض أو رفع التصنيف. ولهذا، فإن أي إصلاح اقتصادي لا يمكن أن ينجح دون بيئة سياسية مستقرة قادرة على اتخاذ قرارات طويلة الأمد.

جمود مالي يهدد الخزينة العامة

تُشير فيتش إلى وجود جمود مالي (Fiscal Stagnation) في العراق، وهو وصف دقيق لحالة الإيرادات والنفقات التي لا تتحرك نحو الإصلاح ولا تتكيف مع المتغيرات الاقتصادية.

هذا الجمود يظهر في ثلاث نقاط أساسية:
1. عجز مالي متصاعد
تتوقع الوكالة أن يتوسع العجز في موازنة العراق خلال السنوات المقبلة، وهو ما يعني ارتفاع الحاجة إلى الاقتراض الداخلي والخارجي.
2. اعتماد شبه كامل على إيرادات النفط
يشكل النفط أكثر من 90% من إيرادات الدولة. هذا الاعتماد يجعل المالية العامة عرضة لأي انخفاض في أسعار الخام، بما يشبه وضع مصير الاقتصاد تحت رحمة سوق عالمية متقلّبة.
3. تضخم النفقات التشغيلية
كتلة رواتب كبيرة، دعم حكومي واسع، والتزامات مالية متنامية تجعل تقليص الإنفاق مهمة شبه مستحيلة سياسيًا واجتماعيًا.

هذه العوامل مجتمعة تؤدي إلى ما يمكن وصفه بـ”اللا مرونة المالية”، إذ لا تمتلك الدولة مساحة كافية للتحرك عند حدوث صدمة اقتصادية أو انخفاض في أسعار النفط.

هل هناك نقاط قوة؟ نعم.. ولكن

ورغم الصورة المقلقة، تشير فيتش إلى أن العراق يمتلك احتياطيات نقدية جيدة من العملة الأجنبية، وهو ما يوفر نوعًا من “وسادة الأمان” للتعامل مع الالتزامات قصيرة الأمد. كما أن العائدات النفطية – رغم تقلبها – تبقى مصدرًا قويًا يدعم القدرة على تمويل جزء كبير من النفقات.

إلا أن هذه النقاط الإيجابية لا تكفي وحدها لرفع التصنيف، ما لم تُعالج جذور المشكلة: الاعتماد على النفط، ضعف المؤسسات، وتضخم القطاع العام.

كيف ينعكس هذا التصنيف على المواطن؟

قد يبدو التصنيف شأنًا دوليًا بعيدًا عن حياة الناس، لكنه في الحقيقة ينعكس على:
• أسعار السلع المستوردة (عبر تأثيره في قيمة الدينار والاحتياطي).
• قدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية.
• حجم المشاريع الاستثمارية الجديدة.
• فرص العمل المرتبطة بالقطاع الخاص.

فكلما ارتفعت تكلفة الاقتراض، قلّت قدرة الدولة على الإنفاق التنموي، وتحوّل جزء أكبر من الميزانية لسداد الديون وفوائدها.

إلى أين يتجه العراق؟

إن نقطة التحول الحقيقية لا تكمن في ارتفاع الإيرادات النفطية بقدر ما تكمن في:
• تنويع الاقتصاد.
• إصلاح النظام الضريبي والجمركي.
• تقليص العجز عبر إصلاح الإنفاق العام.
• تعزيز الحوكمة ومكافحة الفساد.

هذه الإجراءات وحدها قادرة على تحسين تصنيف العراق مستقبلًا، وتقليل المخاطر السياسية والمالية التي تحذر منها فيتش.

تصنيف B- ليس حكمًا نهائيًا على مستقبل العراق، لكنه إشارة تحذير واضحة. إنه يذكّرنا بأن استقرار الاقتصاد لا يمكن عزله عن استقرار السياسة، وأن الثروة النفطية وحدها لا تكفي لبناء اقتصاد مستدام.

العراق أمامه فرصة، وربما لحظة تاريخية، لالتقاط أنفاسه والبدء بمسار إصلاحي جاد. وإن لم يتحرك اليوم، فإن كلفة الإصلاح غدًا ستكون أكبر بكثير.