الغرفة الزجاجية في قلب بغداد: حين يتحوّل الاقتصاد إلى ديكور… وتُهدر الفرص خلف واجهات لامعة

شارك الخبر

علي كريم إذهيب – في منطقة الباب الشرقي، وسط بغداد التي ترزح منذ سنوات تحت أزمات خدماتية واقتصادية متراكمة، ظهر مشروع جديد حمل اسم “الغرفة الزجاجية”. قد يبدو الاسم لأول وهلة عنواناً لفضاء ابتكاري أو مركز دعم للشباب وروّاد الأعمال، لكن الواقع مختلف تماماً. فالمشروع، الذي تقف خلفه ما يُعرف بـ“نقابة المحتوى والمشاهير”، تحوّل سريعاً إلى مادة للجدل، بل إلى نموذج آخر لما يمكن تسميته اقتصاد الواجهة: مشاريع تلمع من الخارج وتخلو من الجوهر في الداخل.

من الوهلة الأولى، يجذب المشهد انتباه المارّة: بناء زجاجي لامع، مؤثرون يلوّحون بكاميراتهم، إضاءات مبهرة، وتصريحات عن “دعم صانعي المحتوى” و“تطوير الواقع الرقمي في العراق”. لكن عند تفكيك الصورة اقتصادياً، تظهر فجوة كبيرة بين الخطاب المعلن والنتائج الحقيقية على الأرض. إذ يبرز سؤال مهم: ما القيمة الاقتصادية الفعلية لهذا المشروع؟ وهل يمثل فعلاً خطوة نحو بناء صناعة محتوى مستدامة؟ أم أنه مجرد منصة جديدة لالتقاط الصور وصناعة موجة إعلامية عابرة؟

المفارقة الأكبر تكمن في الجهة التي تبنّت المشروع—“نقابة المحتوى والمشاهير”. فهي كيان لم يتضح إطار عمله القانوني بعد، ولا أهدافه المهنية، ولا معاييره في تمثيل العاملين في مجالات المحتوى. فبينما تمرّ البلاد بأزمات اقتصادية خانقة، وارتفاع نسب البطالة بين الشباب، وانكماش قطاع المشاريع الصغيرة، يبرز هذا الكيان ليعلن عن نفسه من خلال إنشاء غرفة زجاجية، بدلاً من تقديم مبادرات حقيقية لها أثر ملموس في سوق العمل.

اقتصادياً، يمكن وصف المشروع بأنه مثال دقيق لما يسمّيه الخبراء “اقتصاد الرمزية”: إنفاق الموارد على ما يحمل قيمة شكلية بينما يفتقر إلى الجدوى. ففي الوقت الذي يحتاج فيه آلاف الشباب إلى برامج تدريب حقيقية، ومختبرات رقمية، ومساحات عمل مشتركة، ودعم مالي للمبادرات الريادية، يأتي هذا المشروع ليقدّم مساحة تصوير مكيفة، وواجهة لامعة تتناسب مع معايير “الترند”، لا مع احتياجات الاقتصاد الوطني.

ورغم الضجة الإعلامية التي رافقت افتتاح الغرفة الزجاجية، إلا أن أسئلة عديدة بقيت بلا إجابات:

هل تم إعداد دراسة جدوى لمثل هذا المشروع؟

كم بلغت التكلفة؟

وما مدى مساهمته في رفع كفاءة المحتوى العراقي أو تعزيز فرص العمل؟

حتى الآن، لا توجد إجابات واضحة. والأخطر أن المشروع جاء في وقت يعاني فيه العراق من فجوة كبيرة في البنى التحتية الرقمية، ومن غياب سياسات وطنية لتنظيم اقتصاد المحتوى بما يخلق قيمة حقيقية ويمنع تسطيح الثقافة.

بدلاً من إطلاق “غرفة عرض” في وسط المدينة، كان بالإمكان استثمار الموارد في مشاريع أنفع بكثير:

حاضنات أعمال للشباب، مساحات تدريب رقمية، منصات تعليم تقني، دعم للمشاريع الصغيرة، أو حتى برامج لمكافحة البطالة عبر تدريب منتجي المحتوى بشكل مهني يرفع جودة السوق ويخلق فرصاً قابلة للاستمرار. هذه الاستثمارات، بعكس الغرفة الزجاجية، تخلق أثراً اقتصادياً مضاعفاً وتمكّن الشباب من الدخول في دورة إنتاج حقيقية.

لكن ما حدث يعيد إنتاج المشكلة نفسها: التركيز على الواجهة بدلاً من المضمون.

يتم تجميل المشهد، إدخال كاميرات، إضاءة، مؤثرين، بيانات صحفية… بينما يبقى الاقتصاد الحقيقي خارج الصورة. وهذا النمط من التفكير يعمّق فجوة الثقة بين المواطن والمؤسسات، ويجعل الشباب يشعرون بأن الأولوية تُمنح للمظاهر، لا للفرص الحقيقية.

في المحصلة، تمثل الغرفة الزجاجية نموذجاً مصغّراً لسوء إدارة الموارد في بلد بحاجة ماسّة إلى رؤية اقتصادية واضحة. ورغم أن المحتوى الرقمي قطاع مهم ويمكن أن يخلق فرصاً واعدة، إلا أنه بحاجة إلى بنية مهنية، وقوانين منظمة، ومؤسسات تمتلك رؤية، لا إلى غرف شفافة تلمع من الخارج وتفرغ من الداخل.

إن ما يحتاجه العراق ليس “ديكوراً رقمياً”، بل مشاريع إنتاجية تنهض بالشباب وتفتح لهم أبواب العمل والمعرفة. أما الغرفة الزجاجية، فهي تبقى—حتى الآن—واجهة أخرى تُضاف إلى سلسلة الواجهات التي تزيّن المشهد دون أن تغيّره فعلاً.