الانتخابات العراقية إعادة تدوير الفشل بإرادة شعب مخدوع

شارك الخبر

د.محمد عبيد – مع كل دورة انتخابية برلمانية جديدة في العراق، يتكرّر المشهد ذاته حتى بات مألوفًا حدّ الألم؛ ذات الوجوه التي لا تحمل سوى تعابير التملّق السياسي، ذات الأسماء التي التصقت بالكراسي ولم تغادرها منذ أكثر من عشرين عامًا، وذات الشعارات التي تستهلكها المواسم الانتخابية كما تستهلك النار الورق اليابس. وعود تُطلق في الهواء، كلمات معسولة تُسكب على مسامع الناس، وخطب رنّانة لا تُجدي نفعًا، تُقابل بتصفيق جمهور سئم من الانتظار لكنه لا يزال — بشكل أو بآخر — شريكًا في إعادة تدوير هذا الفشل السياسي العميق.
المؤلم في هذه الصورة المتكررة، أن السؤال الذي نطرحه في كل مرة لا يزال بلا إجابة واضحة: من المسؤول عن هذا الركود السياسي؟ أهو الشعب الذي يمدّ يده إلى نفس الوجوه، أم الساسة الذين يتقنون فن البقاء على ظهر الدولة؟ الحقيقة أن الإجابة لا تخلو من مرارة مزدوجة. فالساسة، منذ عام 2005 وحتى اليوم، لم يقدّموا للشعب ما يستحقه من أمن وعدالة وكرامة. بل تجاوزت خيانتهم حدود الإهمال، إلى التفريط العلني بثروات العراق ومكانته. لم يظهر فيهم من يُشعر الناس بأن الدولة لهم، أو أن هناك من ينتمي إلى همومهم اليومية، من كهرباء مفقودة، إلى فرص عمل غائبة، إلى علاج مستحيل في مستشفيات متهالكة لا تصلح حتى للاستعمال البشري.
وفي المقابل، ثمة شريحة غير قليلة من المجتمع، لا تزال تتعامل مع الانتخابات من منطلقات دينية أو طائفية أو قبلية أو حزبية ضيقة، تدفعهم العصبية أو الولاء الأعمى إلى نصرة مرشح لا لأنه الأفضل، بل لأنه الأقرب للهويّة أو الاسم أو المرجعية. وهكذا، تستمر الحلقة المفرغة، ويصعد إلى البرلمان من لا يعرف عن هموم الناس شيئًا، ومن لم يزر حيًّا شعبيًّا إلا ليلة الانتخابات، ولم يختلط بالمواطن إلا حين احتاج إلى صوته.
بل الأدهى من ذلك أن مواسم الانتخابات تحوّلت إلى مهرجانات غنائية وشعرية تتغنى بأشخاص لا يحملون أي مشروع وطني حقيقي، يكتفون بعبارات مثل “سوف نبني” و”سنُصلح” و”نعدكم” وهم في واقع الحال لا يملكون لا أدوات التغيير، ولا نية الإصلاح. والنتيجة: شباب خريجون يقفون طوابير بلا وظائف، آباء ينهكهم العمل لتوفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة، وأمهات يبعن ممتلكاتهن لعلاج أبنائهن في الخارج، بينما المسؤول يتنقل بطائرته الخاصة ويتلقى العلاج في أفخم مشافي أوروبا.
في هذا المشهد المأزوم، لا بد من وقفة ضمير. أيها الشعب العراقي الكريم، اتقوا الله في وطنكم. العراق لم يعد يتحمل مزيدًا من الخداع. جسده المنهك لا يصمد أمام فيروسات الفساد التي نخرت مفاصله. إن صوتكم أمانة، فلا تمنحوه لمن خان، ولا تبيعوه لمن يشتري الولاء بثمن بخس. لا تنخدعوا بمن يقدّم لكم المال أو الوعود أو الواسطة مقابل صوت، فأنتم لا تبيعون ورقة، بل تبيعون مستقبلكم، كرامتكم، وأحلام أطفالكم.
افهموا أن الحقوق لا تُمنح من سياسي، بل تُنتزع بالوعي والاختيار الصحيح. لا تصدقوا من يقول لكم: “أنا منكم وأنا القادر على حمايتكم”، لأن من يحميكم فعلاً هو القانون، والمؤسسات القوية، والعدل الذي لا يميز بين المواطن والمسؤول. ولا ترفعوا أشخاصًا فقط لأنهم منكم، ثم تندموا وتصرخوا: لماذا لم يتغير حالنا؟ لأن التغيير لا يبدأ من النخبة، بل من الشعب نفسه. من طريقة اختياره، من قراره، من وعيه.
الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. إننا أمام مفترق طرق، إما أن نواصل الغرق في مستنقع المحاصصة والفشل والتبعية، أو نكسر هذا القيد بأصواتنا، بمواقفنا، بجرأتنا على أن نقول: كفى. كفى استخفافًا بعقولنا. كفى تجاهلاً لكرامتنا. كفى عبثًا بثروات وطننا.
الانتخابات ليست مجرد صناديق تُملأ، بل قرار مصيري يحدد من سيقود بلدكم، من سيرسم مستقبل أبنائكم، من سيحفظ كرامة الشيوخ الذين يعيشون على رواتب لا تكفيهم لأسبوع، ثم يأتي إليهم من سرق البلاد، ليعدهم بأنه سيعين أبناءهم أو يمنحهم مئة دولار كنوع من “الجميل”. أي مذلة أكبر من هذا؟ وأي خيانة للكرامة الوطنية أعمق من ذلك؟
لا يوجد سياسي يستحق أن يُرى كقائد منقذ أو صاحب فضل عليكم. الفضل لكم، أنتم من تملكون الصوت، وأنتم من تملكون القرار. السياسي مجرد موظف في خدمتكم، وإن لم يؤدِ الأمانة فمصيره أن يُحاسب ويُقصى. لا تجعلوا من السياسي صنمًا، ولا من المرشح معبودًا. العراق لا يُبنى بالأشخاص بل بالمؤسسات والعدالة. والعراق بحاجة الآن، أكثر من أي وقت مضى، إلى أصوات شجاعة، إلى شعب يرفض أن يكون ضحية جديدة في موسم سياسي جديد.
اصنعوا الفرق، وكونوا أنتم البداية.