هل تتحول السعودية إلى ميدان اشتباك؟

شارك الخبر

ناجي الغزي – تشهد منطقة الخليج تحوّلاً استراتيجياً عميقاً، حيث تترسّخ ملامح مواجهة كبرى تُكتب ملامحها في واشنطن وتُنفذ في العواصم الإقليمية، وفي مقدمتها الرياض. لكن الخطير في هذا التحول أنه لا يُبنى على منطق الشراكة أو المصالح المتبادلة، بل على معادلة جديدة قوامها: الدفع بالحلفاء إلى خط النار، دون ضمانات، ودون قرار سيادي حقيقي.
السعودية اليوم ليست أمام تحدٍّ أمني فقط، بل أمام اختبار سيادي يمسّ جوهر استقرارها وهويتها الجيوسياسية. فمنذ عقود كانت الرياض جزءاً من تحالف تقليدي يقوم على فكرة الردع المشترك، لكنها اليوم تُدفع بخطى ثابتة إلى أن تكون ميدان الاشتباك لا مجرد شريك فيه.

أولاً. التموضع الأمريكي الجديد

ما يجري على الأرض السعودية ليس مجرد تحرك تكتيكي، بل إعادة هيكلة جذرية للوجود الأمريكي في الخليج. مع تضاؤل أهمية القواعد في قطر والبحرين والكويت، تتجه الأنظار نحو “قلب الجزيرة”، وتحديداً قاعدة الأمير سلطان الجوية ويَنبُع الساحلية، حيث تُنقل المعدات والقدرات الهجومية الأمريكية الى تلك القواعد.
الرسالة من هذا التموضع واضحة: واشنطن اختارت السعودية لتكون مركز الثقل الجديد في إدارة الصراع مع طهران. لكن ما يبدو كتحالفٍ استراتيجي يخفي في جوهره سيناريو توريط صريح، حيث تصبح الأراضي السعودية نقطة انطلاق لأي ضربة محتملة، في حين تبقى الأراضي الأمريكية بعيدة عن دائرة الردّ.

ثانياً. ينبع: بوابة التصعيد القادمة؟

القاعدة الجديدة في ينبع ليست منشأة مؤقتة. إنها مُخطط لها أن تكون “ثابتة ومشتعلة عند الحاجة”. البنية التحتية، من أنفاق تحت الأرض ومساكن دائمة إلى مدارج لطائرات دون طيار، تكشف نوايا طويلة الأمد. اختيار ينبع لم يكن صدفة؛ قربها من منشآت الطاقة، ومن خطوط التجارة البحرية في البحر الأحمر، يجعلها هدفاً مغرياً لأي رد إيراني.

الأخطر أن إيران لا ترى ينبع كقاعدة أمريكية، بل كأرض سعودية تُستعمل للعدوان. وهذا ما يغيّر قواعد الاشتباك التقليدية، الرد الإيراني لن يوجّه ضد المنفذ، بل ضد المضيف.

ثالثاً. تحالفات على الورق… وحروب على الأرض

التحالف الأمريكي-السعودي بات اليوم غير متوازن في نتائجه. فالولايات المتحدة تحصل على فوائد واضحة، مثل التمركز العسكري المرن والقدرة على المبادرة وقتما تشاء، بينما تتحمل السعودية الجانب الأصعب: مخاطر الرد الإيراني، والانكشاف الأمني، والضغوط من الجوار الإقليمي.
ورغم الحديث عن الشراكة والتحالف، لا توجد ضمانات أمنية ملزمة تحمي الرياض، ولا يوجد “ناتو خليجي” فعّال يمكن الاعتماد عليه، ولا حتى مظلة ردع متبادلة تضمن أن لا تكون السعودية وحدها في وجه أي تصعيد.

ففي اللحظة التي تبدأ فيها الضربات من الأراضي السعودية، فإن طهران ستتعامل مع الرياض كطرف مباشر، سواء رغبت الأخيرة بذلك أم لا. وهنا تتحول السعودية من “حليف ذكي” إلى “واجهة صراع”، في لعبة تدار من مكان آخر.

رابعاً. إيران – استراتيجية الصبر والهجوم المؤجل

إيران تتبنى استراتيجية صبر طويل الأمد في إدارة صراعاتها، لكنها تحتفظ بذاكرة عسكرية وسياسية حاضرة لا تُغفل أي استهداف. في حال تعرض منشآتها لهجوم من قواعد تُدار من الأراضي السعودية، فإن الرد الإيراني لن يقتصر على رد فعل رمزي أو محدود، بل سيأخذ شكل حملة شاملة ومخطط لها بدقة لتعطيل القدرات الاستراتيجية للخصم.
سيشمل هذا الرد ضربات صاروخية دقيقة تستهدف القواعد العسكرية الأميركية داخل السعودية، بالإضافة إلى منشآت النفط الحيوية والموانئ الرئيسة، وربما البنية التحتية الحيوية كشبكات الاتصالات والطاقة، بهدف إحداث خلل استراتيجي في عمق النظام السعودي.
وفي سيناريو أكثر تعقيداً، ستُفعّل إيران أذرعها الإقليمية في اليمن ولبنان وسوريا لفتح جبهات متزامنة، تخلق ضغطاً متعدد الأبعاد يعقّد المشهد العسكري والسياسي، ويستنزف قدرات خصومها ويضعف أي جهود للسيطرة على التصعيد في المنطقة. بهذه الاستراتيجية، تؤكد طهران قدرتها على إعادة هندسة قواعد الاشتباك بما يخدم مصالحها الإقليمية بعيدة المدى.

خامساً. انعكاسات الصراع المحتمل

في ظل تصاعد التوترات الإقليمية، تبدو المملكة العربية السعودية واقعة في مركز عاصفة متشابكة من المخاطر والتحديات التي تتجاوز حدودها الجغرافية. فالصراع المحتمل لا يقتصر على المواجهات العسكرية المباشرة، بل يتغلغل في نسيج الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل البلاد، ليترك آثاراً طويلة الأمد على مستقبلها واستقرارها.تداعيات هذا الصراع ستتجلى:
أولاً: في المجال الأمني- حيث ستتعرض المملكة لانكشاف خطير على خلفية وجود قواعد عسكرية أجنبية تتحول إلى أهداف محتملة، ما يفرض على الأجهزة الأمنية والقطاعات الدفاعية أعباء إضافية في حماية المنشآت الحيوية والمناطق السكنية، وسط مخاوف من تصعيد ردود الفعل.
ثانياً: على الصعيد الاقتصادي- فستواجه المملكة صدمات لا يمكن تجاهلها، لا سيما في قطاع النفط الذي يمثل العمود الفقري لاقتصادها. أي استهداف لمرافق الطاقة أو الموانئ البحرية سيؤدي إلى تعطيل إمدادات الطاقة العالمية، ما سينعكس سلباً على الاستثمارات، ويدفع نحو تراجع النمو الاقتصادي ويهدد تحقيق رؤية 2030 الطموحة.
ثالثاً: المستوى السياسي والاجتماعي- فإن انعدام الوضوح في الموقف الرسمي، وغياب سردية وطنية موحدة تُبرر مآلات الصراع، قد يؤدي إلى تآكل الشرعية السياسية، وزيادة الاحتقان الشعبي، وربما تفجر أزمات داخلية تستغلها جهات متعددة لتعميق الانقسامات.
في هذه اللحظة الحاسمة، تجد المملكة نفسها أمام اختبار حقيقي لقدرتها على إدارة أزماتها، وحماية مصالحها الوطنية، والاحتفاظ بمكانتها كقوة إقليمية فاعلة. فالصراع ليس مجرد مسرح للمعارك العسكرية، بل هو اختبار شامل لصمود الدولة ومجتمعها أمام التحديات الكبرى.