بغداد – في المشهد السياسي العراقي الذي لا يكاد يهدأ، تعود التحركات الميدانية إلى الواجهة مع اقتراب الانتخابات، وتبرز من بينها سلسلة الزيارات التي يجريها محمد الحلبوسي، رئيس مجلس النواب السابق، إلى قادة سياسيين من مختلف التيارات، خصوصًا زيارته الأخيرة لكلٍّ من الشيخ قيس الخزعلي، زعيم حركة “عصائب أهل الحق”، والسيد عمار الحكيم، زعيم تيار الحكمة الوطني. ما الذي يدفع الحلبوسي إلى هذه اللقاءات؟ ولماذا الآن؟ ولماذا يترشح عن بغداد، وليس عن محافظة الأنبار، معقله السياسي التقليدي؟
من هو محمد الحلبوسي؟
ولد محمد ريكان حديد علي الحلبوسي في الأول من كانون الثاني 1981 في محافظة الأنبار. وهو مهندس مدني حاصل على شهادة البكالوريوس من الجامعة المستنصرية، ولاحقًا على شهادة الماجستير في الهندسة. بدأ نشاطه السياسي بعد 2003 في أجواء ما بعد الاحتلال الأميركي، وتمكّن من الدخول إلى مجلس النواب لأول مرة في انتخابات 2014 كنائب عن محافظة الأنبار ضمن تحالف “اتحاد القوى الوطنية”.
برز نجمه أكثر بعد أن شغل منصب محافظ الأنبار عام 2017، في مرحلة إعادة الإعمار بعد تحرير المحافظة من سيطرة تنظيم داعش. وأظهر في تلك الفترة قدرة على المناورة السياسية، وعلاقات قوية داخل العراق وخارجه. في عام 2018، تم انتخابه رئيسًا لمجلس النواب، ليكون أصغر من تولى هذا المنصب في تاريخ العراق، وأول شخصية سُنية تصعد بهذا الشكل السريع بعد 2003.
أسس الحلبوسي لاحقًا “تحالف تقدم” الذي قدّم نفسه على أنه ممثل الصوت السُني الجديد، القوي والمستقل، بعيدًا عن الخطاب الطائفي التقليدي، وسعى من خلاله إلى خلق توازن جديد في علاقات المكون السني مع بقية القوى السياسية الشيعية والكردية.
الترشّح عن بغداد: دلالات ورسائل
ترشح الحلبوسي على رأس قائمة “تقدّم” في بغداد يمثل خروجًا عن المألوف، فهو لم يختر معقله الشعبي في الأنبار، بل العاصمة التي تضم خريطة سياسية معقدة من السُنة والشيعة، والتيار المدني، والإسلاميين. هذا الترشح يحمل أكثر من دلالة:
1. رسالة ثقة وقوة: يريد الحلبوسي القول إنه ليس زعيمًا محليًا مرتبطًا بمحافظة واحدة، بل قائد سياسي وطني بإمكانه المنافسة في العاصمة، مركز القرار والنفوذ.
2. إعادة التموضع بعد الانقسام السُني: بعد الإطاحة به من رئاسة البرلمان إثر تصويت داخلي ومواقف قوى سنية مناهضة له، يحاول الحلبوسي إعادة التموضع بشكل ذكي عبر بغداد، حيث بإمكانه أن يخاطب جمهورًا متنوعًا، وليس فقط جمهوره التقليدي.
3. مغازلة القوى الشيعية: الترشح من بغداد يفرض عليه التفاهم مع الزعامات السياسية الشيعية ذات الثقل في العاصمة، لذلك تأتي زياراته للشيخ قيس الخزعلي والسيد عمار الحكيم في هذا السياق.
زيارات ليست عابرة: قراءة في لقاءات الحلبوسي
زيارة الحلبوسي إلى الشيخ قيس الخزعلي ليست مجرد لقاء بروتوكولي. حركة “عصائب أهل الحق” التي تمتلك نفوذًا سياسيًا وأمنيًا واسعًا في بغداد وبعض المحافظات الجنوبية، تُعتبر أحد الأركان الأساسية في الإطار التنسيقي الشيعي، ولقاء الحلبوسي مع زعيمها يحمل في طياته عدة رسائل:
• رسالة تطمين: في ظل الحديث عن ملفات خلافية، كإعادة هيكلة السلطة التنفيذية أو التعامل مع الوجود الأميركي، يريد الحلبوسي أن يؤكد عدم وجود أجندة صدامية مع فصائل المقاومة أو الإطار الشيعي.
• صفقة انتخابية؟ من غير المستبعد أن يكون هناك تفاهم غير معلن لتأمين أصوات أو دعم لوجستي في مناطق حساسة من بغداد، أو لفتح قنوات دعم في مفوضية الانتخابات ضمن مناطق ذات غالبية شيعية.
أما لقاء الحلبوسي مع السيد عمار الحكيم، فله طابع مختلف، فهو أشبه بمحاولة بناء جسور مع التيار المعتدل داخل الإطار الشيعي، خصوصًا أن الحكيم يمثل تيارًا منفتحًا على الطروحات الوطنية والمدنية، ويحتفظ بعلاقات متينة مع أطراف سنية وكردية، ما قد يسهّل على الحلبوسي مشروعه العابر للطوائف.
تحديات الحلبوسي في بغداد
لكن الترشح من بغداد لا يخلو من التحديات:
• منافسة شرسة: هناك رموز دينية وسياسية شيعية ذات حضور قوي، فضلًا عن صعود التيارات التشرينية والمدنية، ما يصعّب على “تقدّم” فرض هيمنته في العاصمة.
• تآكل التحالفات السابقة: بعض الحلفاء السُنة انقلبوا عليه أو شكّلوا كتلًا منافسة، مثل خميس الخنجر، ما يهدد بتفتيت الصوت السُني.
• فقدان الثقة من الشارع: بعد سنوات من العمل السياسي، يواجه الحلبوسي نقدًا بشأن ضعف الخدمات، تركيز السلطة بيد المقربين، وشبهات الفساد في مشاريع الأنبار.
محاولة بقاء أم تمهيد للعودة الكبرى؟
الحلبوسي اليوم في وضع معقد: لم يعد رئيسًا للبرلمان، ويواجه تحديات داخلية في كتلته، لكنه لا يزال يحتفظ بشبكة علاقات إقليمية واسعة، وقدرة تمويل، وقاعدة سياسية لا يُستهان بها. ترشحه من بغداد ليس مغامرة بلا حساب، بل أقرب إلى محاولة مدروسة للعودة من بوابة العاصمة إلى واجهة القرار الوطني، لكن نجاح هذه المحاولة مرهون بقدرته على بناء تحالفات جديدة، وإقناع جمهور مختلف عن ذلك الذي اعتاد التصويت له في الأنبار.
هل سيقدر الحلبوسي على عبور امتحان بغداد؟ الأيام القادمة كفيلة بالإجابة