اقتصاد العراق يذوب تحت الشمس: كيف تسرق القبة الحرارية خبز الفلاح وكهرباء المواطن؟

شارك الخبر

علي كريم إذهيب – يشهد العراق منذ عدة سنوات تصاعدًا في الظواهر المناخية المتطرفة، وعلى رأسها ما يُعرف بـ”القبة الحرارية”، وهي حالة جوية تنتج عن تمركز نظام ضغط جوي مرتفع فوق منطقة معينة، يؤدي إلى حبس الهواء الساخن قرب سطح الأرض ومنع تيارات الهواء الباردة من التغلغل إلى الأسفل، مما يؤدي إلى موجات حرارة شديدة تدوم لأيام وربما أسابيع. في العراق، حيث درجات الحرارة صيفًا تلامس أو تتجاوز 50 درجة مئوية، تأخذ هذه الظاهرة أبعادًا كارثية على مختلف القطاعات الاقتصادية والخدمية، فضلًا عن تأثيرها على الصحة العامة وجودة الحياة.

الزراعة في عين العاصفة

القطاع الزراعي في العراق يُعد من أكبر المتضررين من القبة الحرارية، خاصة في ظل اعتماد نسبة كبيرة من سكان الأرياف على الزراعة كمصدر رئيسي للدخل. في السنوات الأخيرة، شهدت المحافظات الزراعية مثل واسط، بابل، الديوانية، والنجف انخفاضًا ملحوظًا في الإنتاج الزراعي بسبب ارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات قاتلة للمحاصيل. فالأمطار الموسمية لم تعد كافية، ومصادر المياه التقليدية أصبحت مهددة، خصوصًا في ظل التراجع الحاد في تدفقات نهري دجلة والفرات نتيجة السدود المقامة من دول الجوار وقلة التنسيق الإقليمي.

ويؤكد العديد من المزارعين أن تكلفة الري ارتفعت بشكل كبير بسبب الاعتماد على الآبار والمولدات لسحب المياه، في حين أن محاصيل مثل القمح والشعير والخضروات الصيفية أصبحت أقل مقاومة للحرارة المفرطة، ما يؤدي إلى خسائر سنوية كبيرة في الإنتاج.

منظومة الكهرباء تحت الضغط

ارتفاع درجات الحرارة الناتج عن القبة الحرارية يؤدي إلى زيادة استهلاك الكهرباء بشكل غير مسبوق. المواطنون، في ظل ارتفاع درجات الحرارة، يلجؤون إلى أجهزة التبريد والمكيفات لساعات طويلة يوميًا. هذه الزيادة المفاجئة في الطلب تصطدم ببنية تحتية كهربائية متهالكة، تعاني أصلًا من مشاكل فنية ونقص في الإنتاج والتوزيع.

وزارة الكهرباء تجد نفسها سنويًا في مواجهة أزمة متكررة، حيث تنخفض ساعات التجهيز الحكومي، ويزداد الاعتماد على المولدات الأهلية التي تستهلك كميات كبيرة من الوقود، وتُحدث تلوثًا صوتيًا وبيئيًا في الأحياء السكنية. كما أن كلف تشغيل هذه المولدات تثقل كاهل المواطنين وتضيف عبئًا إضافيًا على الأسر ذات الدخل المحدود.

التأثير على الصحة العامة والإنتاجية

القبة الحرارية لا تؤثر على الاقتصاد فقط، بل تمثل خطرًا مباشرًا على صحة الإنسان. المستشفيات والمراكز الصحية تسجل ارتفاعًا ملحوظًا في حالات الإصابة بضربات الشمس، الإرهاق الحراري، والجفاف، لا سيما بين الأطفال وكبار السن والعمال الذين يعملون في الأماكن المكشوفة. كما أن فترات الحرارة الطويلة تؤدي إلى تفاقم أمراض القلب والتنفس، وتجعل من الظروف الصحية العامة أكثر هشاشة.

تراجع الإنتاجية العمالية أصبح ملموسًا، خاصة في قطاعات مثل البناء، الزراعة، والنقل، حيث يضطر الكثير من العمال إلى تقليص ساعات العمل أو التوقف عنه في فترات الذروة، ما يؤثر على سير المشاريع ويزيد من كلف التنفيذ. في بعض الحالات، تسجل الشركات انخفاضًا في الأداء العام بنسبة تصل إلى 30% خلال شهور الصيف.

الصناعة والنقل… تكاليف إضافية

قطاعا الصناعة والنقل يواجهان تحديات كبيرة أيضًا. في المصانع والمصافي، ترتفع درجات الحرارة داخل الورش إلى مستويات غير آمنة، مما يستلزم تشغيل أنظمة تبريد صناعية مكلفة. كما أن المعدات الثقيلة والمولدات الصناعية تتعرض لأعطال متكررة بسبب الضغط الحراري، ما يرفع من تكاليف الصيانة والتشغيل.

أما في مجال النقل، فتتعرض بعض الطرق للإجهاد الحراري، ما يؤدي إلى تشققات في الإسفلت، وتأخر في حركة البضائع والسلع. كذلك، يحتاج نقل الأغذية والمستلزمات الطبية إلى تبريد مستمر، ما يزيد من كلفة النقل بنسبة ملحوظة.

الهجرة البيئية: مدن مزدحمة وريف يتراجع

التغير المناخي، مدفوعًا بالقبة الحرارية، بدأ يدفع بعشرات الآلاف من العائلات في المناطق الريفية إلى الهجرة نحو المدن. هذه الهجرة ليست فقط بحثًا عن العمل، بل هروبًا من بيئة زراعية لم تعد صالحة للحياة بسبب نقص المياه وغياب الدعم الحكومي. النتيجة هي زيادة الضغط على المدن من حيث السكن، الخدمات الصحية، التعليم، والنقل، ما يؤدي إلى تفاقم الأزمات الحضرية.

الأثر المالي: كلفة متراكمة بلا حلول

من الناحية المالية، تتحمل الدولة والمواطن على حد سواء كلفة باهظة للتعامل مع تبعات القبة الحرارية. الإنفاق الحكومي يرتفع بشكل واضح في قطاعي الصحة والطاقة، في حين تتضرر الإيرادات في قطاعات الزراعة والصناعة والسياحة الداخلية التي تتأثر سلبًا بظروف الطقس القاسية. ومع غياب خطط اقتصادية مخصصة لمواجهة آثار التغير المناخي، تبقى هذه التكاليف مرشحة للارتفاع سنويًا.

ما المطلوب؟

أن التعامل مع القبة الحرارية لا يمكن أن يكون ردّ فعل موسمي، بل يجب أن يكون جزءًا من خطة وطنية طويلة الأمد للتكيف مع التغير المناخي. من بين الإجراءات الضرورية:

  • تطوير مصادر الطاقة المتجددة، خاصة الطاقة الشمسية، لتقليل الضغط على الشبكة التقليدية.
  • تبني تقنيات الزراعة الذكية مثل الري بالتنقيط والمناطق الزراعية المغلقة.
  • تحسين كفاءة العزل الحراري في الأبنية لتقليل الحاجة إلى التبريد.
  • إطلاق حملات توعية مجتمعية حول التعامل مع الحرارة المرتفعة وطرق الوقاية الصحية.
  • إنشاء صندوق وطني للطوارئ المناخية لدعم المتضررين من موجات الحرارة والكوارث الطبيعية.

القبة الحرارية لم تعد ظاهرة مناخية عابرة، بل تحوّلت إلى تحدٍّ مستمر يؤثر على كل بيت وقطاع ومؤسسة في العراق. وإذا لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة وفاعلة، فإن السنوات المقبلة قد تشهد أزمات اقتصادية وصحية واجتماعية أعمق وأصعب. فالمطلوب اليوم ليس فقط التكيّف، بل الاستعداد والتخطيط والتغيير.